فصل: باب ما جاء في قدر التعزير والحبس في التهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب ما ورد في قتل الشارب في الرابعة وبيان نسخه

1 - عن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه قال عبد اللّه‏:‏ ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي أن أقتله‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

2 - وعن معاوية‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي قال الترمذي‏:‏ إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد ين المنكدر عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه قال ثم أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله‏)‏‏.‏

3 - وعن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ورفع القتل وكانت رخصة‏)‏‏.‏

رواه أبو داود وذكره الترمذي بمعناه‏.‏

4 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا الترمذي وزاد أحمد‏:‏ ‏(‏قال الزهري‏:‏ فأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسكران في الرابعة فخلى سبيله‏)‏‏.‏

حديث ابن عمرو أخرجه أيضًاالحارث بن أبي أسامة في مسنده من طريق الحسن البصري ورواه من طريقه ابن حزم والحسن لم يسمع من عبد اللّه بن عمرو فهو منقطع وقد جزم بعدم سماعه منه ابن المديني وغيره ووقع في نسخة من هذا الكتاب عبد اللّه بن عمر بدون واو والصواب إثباتها‏.‏ وحديث معاوية قال البخاري هو أصح ما في هذا الباب وأخرجه أيضًاالشافعي والدارمي وابن المنذر وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرج ابن أبي شيبة من رواية أبي سعيد والمحفوظ أنه عن معاوية وأخرجه أبو داود من رواية أبان العطار وفيه فإن شربوا يعني بعد الرابعة فاقتلوهم‏.‏ ورواه أيضًاأبو داود من حديث ابن عمر قال‏:‏ وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه قال وكذا في حديث غطيف في الخامسة‏.‏ وحديث جابر أخرجه أيضًاالنسائي‏.‏ وحديث قبيصة بن ذؤيب أخرجه أيضًاالشافعي وعبد الرزاق وعلقه الترمذي‏.‏

وأخرجه أيضًاالخطيب عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة قال سفيان بن عيينة حدث الزهري بهذا وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة ولد عام الفتح وقيل إنه ولد أول سنة من الهجرة ولم يذكر له سماع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعده الأئمة من التابعين وذكروا أنه سمع الصحابة قال المنذري‏:‏ وإذا ثبت أن مولده أول سنة من الهجرة أمكن أن يكون سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد قيل أنه أتى به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو غلام يدعو له وذكر عن الزهري أنه كان إذا ذكر قبيصة بن ذؤيب قال كان من علماء هذه الأمة وأما أبوه ذؤيب بن حلحلة فله صحبة انتهى ورجال الحديث مع إرساله ثقات وأعله الطحاوي بما أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري راويه قال بلغني عن قبيصة ولم يذكر أنه سمع منه وعورض بأنه رواه ابن وهب عن يونس قال أخبرني الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر مثله‏.‏

وأما حديث أبي هريرة فقد قدمنا من أخرجه ومن صححه وفي الباب عن الشريد بن أوس الثقفي عند أحمد والأربعة والدارمي والطبراني وصححه الحاكم وعن شرحبيل الكندي عند أحمد والطبراني وابن منده ورجاله ثقات وعن أبي الرمداء براء مهملة مفتوحة وميم ساكنة ودال مهملة وبالمد عند الطبراني وابن منده وفي إسناده ابن لهيعة وفيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بضرب عنقه وأنه ضرب عنقه فإن ثبت هذا كان فيه رد على من يقول إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يعمل به‏.‏

وقد اختلف العلماء هل يقتل الشارب بعد الرابعة أو لا فذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه يقتل ونصره ابن حزم واحتج له ودفع دعوى الإجماع على عدم القتل وهذا هو طاهر ما في الباب عن ابن عمرو وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الشارب وأن القتل منسوخ قال الشافعي‏:‏ والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره يعني حديث قبيصة ابن ذؤيب ثم ذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به الفعل وإنما يقصد به الردع والتحذير وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبًا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل انتهى‏.‏ وحكى المنذري عن بعض أهل العلم أنه قال‏:‏ أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا تكرر منه إلا طائفة شاذة قالت يقتل بعد حده أربع مرات للحديث وهو عند الكافة منسوخ انتهى‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ إنه لا يعلم في ذلك اختلافًا بين أهل العلم في القديم والحديث وذكر أيضًافي آخر كتابه الجامع في العلل أن جميع ما فيه معمول به عند البعض من أهل العلم إلا حديث إذا سكر فاجلدوه المذكور في الباب‏.‏ وحديث الجمع بين الصلاتين وقد احتج من أثبت القتل بأن حديث معاوية المذكور متأخر عن الأحاديث القاضية بعدم القتل لأن إسلام معاوية متأخر وأجيب عن ذلك بأن تأخر إسلام الراوي لا يستلزم تأخر المروي لجواز أن يروي ذلك عن غيره من الصحابة المتقدم إسلامهم على إسلامه وأيضًاقد أخرج الخطيب في المبهمات عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة أنه قال في حديثه السابق فأتي برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات فرأى المسلمون أن القتل قد أخر‏.‏

وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن سهيل وفيه قال فحدثت به ابن المنكدر فقال قد ترك ذلك وقد أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بابن النعيمان فجلده ثلاثًا ثم أتي به الرابعة فجلده ولم يزده وقصة النعيمان أو ابن النعيمان كانت بعد الفتح لأن عقبة بن الحارث حضرها فهي إما بحنين وإما بالمدينة ومعاوية أسلم قبل الفتح أو في الفتح على الخلاف وحضور عقبة كان بعد الفتح‏.‏

 باب من وجد منه سكر أو ريح خمر ولم يعترف

1 - عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقت في الخمر حدًا وقال ابن عباس شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج فانطلق به إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فضحك وقال أفعلها ولم يأمر فيه بشيء‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وقال‏:‏ هذا مما تفرد به أهل المدينة‏.‏

2 - وعن علقمة قال‏:‏ ‏(‏كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل‏:‏ ما هكذا أنزلت فقال عبد اللّه‏:‏ والله لقرأتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ أحسنت فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر فقال‏:‏ أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب فضربه الحد‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

حديث ابن عباس أخرجه أيضًاالنسائي وقوى الحافظ إسناده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يقت‏)‏ من التوقيت أي لم يقدره بقدر ولا حده بحد وقد استدل بهذا الحديث من قال إن حد السكر غير واجب وأنه غير مقدر وإنما هو تعزير فقط كما تقدم وأجيب عن هذا بأنه قد وقع الإجماع من الصحابة على وجوبه‏.‏ وحديث ابن عباس المذكور قد قيل إنه كان قبل أن يشرع الجلد ثم شرع الجلد والأولى أن يقال إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما لم يقم على ذلك الرجل الحد لكونه لم يقر لديه ولا قامت عليه بذلك الشهادة عنده وعلى هذا بوب المصنف فيكون في ذلك دليل على أنه لا يجب على الإمام أن يقيم الحد على شخص بمجرد إخبار الناس له أنه فعل ما يوجبه ولا يلزمه البحث بعد ذلك لما قدمنا من مشروعية الستر وأولوية ما يدرأ الحد على ما يوجبه وأثر ابن مسعود المذكور فيه متمسك لمن يجوز للإمام والحاكم ومن صلح أن يقيم الحدود إذا علم بذلك وإن لم يقع من فاعل ما يوجبها إقرار ولا قامت عليه البينة به وقد خالف في أصل حكم الحاكم بما علم مطلقًا شريح والشعبي وابن أبي ليلى والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق والشافعي في قول له فقالوا لا يجوز له أن يقضي بما علم مطلقًا‏.‏

وقال الناصر والمؤيد باللّه في قول له والشافعي في قول له أيضًاأنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في كل شيء من غير فرق بين الحد وغيره وذهبت العترة إلى أنه يحكم بعلمه في الأموال دون الحدود إلا في حد القذف فإنه يحكم فيه بعلمه ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري تعليقًا أن عمر قال لعبد الرحمن لو رأيت رجلًا على حد فقال أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال أصبت وصله البيهقي ويؤيده حديث‏:‏ ‏(‏لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها‏)‏ في قصة الملاعنة وقد تقدم فإن ذلك يدل على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد علم زناها‏.‏

 باب ما جاء في قدر التعزير والحبس في التهم

1 - عن أبي بردة بن نيار‏:‏ ‏(‏أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود اللّه تعالى‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا النسائي‏.‏

2 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس رجلًا في تهمة ثم خلى عنه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا ابن ماجه‏.‏

حديث أبي بردة مع كونه متفقًا عليه قد تكلم في إسناده ابن المنذر والأصيلي من جهة الاختلاف فيه وقال البيهقي‏:‏ قد أقام عمرو بن الحارث إسناده فلا يضره تقصير من قصر فيه وقال الغزالي‏:‏ صححه بعض الأئمة وتعقبه الرافعي في التذنيب فقال‏:‏ أراد بقوله بعض الأئمة صاحب التقريب ولكن الحديث أظهر من أن تضاف صحته إلى فرد من الأئمة فقد صححه البخاري ومسلم‏.‏

وحديث بهز بن حكيم حسنه الترمذي وقال الحاكم صحيح الإسناد ثم أخرج له شاهدًا من حديث أبي هريرة وفيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس في تهمة يومًا وليلة وقد تقدم الاختلاف في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يجلد‏)‏ روي بفتح الياء في أوله وكسر اللام وروي أيضًابضم الياء وفتح اللام وروي بصيغة النهي مجزومًا وبصيغة النفي مرفوعًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوق عشرة أسواط‏)‏ في رواية فوق عشرة ضربات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا في حد‏)‏ المراد به ما ورد عن الشارع مقدرًا بعدد مخصوص كحد الزنا والقذف ونحوهما وقيل المراد بالحد هنا عقوبة المعصية مطلقًا لا الأشياء المخصوصة‏.‏ فإن ذلك التخصيص إنما هو من اصطلاح الفقهاء وعرف الشرع إطلاق الحد على كل عقوبة لمعصية من المعاصي كبيرة أو صغيرة ونسب ابن دقيق العيد هذه المقالة إلى بعض المعاصرين له وإليها ذهب ابن القيم وقال المراد بالنهي المذكور في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه الصغير واعترض على ذلك بأنه قد ظهر أن الشارع يطلق الحدود على العقوبات المخصوصة ويؤيد ذلك قول عبد الرحمن بن عوف أن أخف الحدود ثمانون كما تقدم في كتاب حد شارب الخمر وقد ذهب إلى العمل بحديث الباب جماعة من أهل العلم منهم الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية وذهب أبو حنيفة والشافعي وزيد بن علي والمؤيد باللّه والإمام يحيى إلى جواز الزيادة على عشرة أسواط ولكن لا يبلغ إلى أدنى الحدود‏.‏ وذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب إلى أنه يكون في كل موجب للتعزير دون حد جنسه وإلى مثل ذلك ذهب الأوزاعي وهو مروي عن محمد بن الحسن الشيباني وقال أبو يوسف إنه ما يراه الحاكم بالغًا ما بلغ وقال مالك وابن أبي ليلى أكثره خمسة وسبعون هكذا حكى صاحب البحر والذي حكاه النووي عن مالك وأصحابه وأبي ثور وأبي يوسف ومحمد إنه إلى رأي الإمام بالغًا ما بلغ‏.‏

وقال الرافعي‏:‏ الأظهر أنها تجوز الزيادة على العشرة وإنما المراعى النقصان عن الحد قال وأما الحديث المذكور فمنسوخ على ما ذكره بعضهم واحتج بعمل الصحابة بخلافه من غير إنكار انتهى‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير وأحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم ذكر حديث أبي بردة المذكور في الباب‏.‏

قال الحافظ‏:‏ فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل في ذلك فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه من غير برهان وسبق إلى دعوى عمل الصحابة بخلافه الأصيلي وجماعة وعمدتهم كون عمر جلد في الخمر ثمانين وأن الحد الأصلي أربعون والباقية ضربها تعزيرًا لكن حديث علي السابق يدل على أن عمر إنما ضرب ثمانين معتقدًا أنه الحد وأما النسخ فلا يثبت إلا بدليل وذكر بعض المتأخرين أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة كالسيد يضرب عبده والزوج يضرب زوجته والأب ولده والحق العمل بما دل عليه الحديث الصحيح المذكور في الباب وليس لمن خالفه متمسك يصلح المعارضة وقد نقل القرطبي عن الجمهور أنهم قالوا بما دل عليه وخالفه النووي فنقل عن الجمهور عدم القول به ولكن إذا جاء نهر اللّه بطل نهر معقل فلا ينبغي لمنصف التعويل على قول أحد عند قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏

دعوا كل قول عند قول محمد * فما آمن في دينه كمخاطر

قوله‏:‏ ‏(‏في تهمة‏)‏ بضم التاء وسكون الهاء وقد تفتح في لغة وهي فعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته إذا ظننت فيه ما نسب إليه وفيه دليل على أن الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار في غير حق بل لينكشف به بعض ما وراءه وقد بوب أبو داود على هذا الحديث فقال باب في الحبس في الدين وغيره وذكر معه حديث عمرو بن الشريد‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لي الواجد يحل عرضه وعقوبته‏)‏ وقد تقدم وذكر أيضًاحديث الهرماس ابن حبيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏(‏أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بغريم لي فقال لي الزمه ثم قال يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك‏)‏ وأخرجه أيضًاابن ماجه قال في البحر‏:‏ مسألة وندب اتخاذ سجن للتأديب واستيفاء الحقوق لفعل أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه وعمر وعثمان ولم ينكر وكذلك الدرة والسوط لفعل عمر وعثمان‏.‏

فرع ويجب حبس من عليه الحق للإيفاء إجماعًا أن طلب لحبسه صلى اللّه عليه وآله وسلم من أعتق شقصًا في عبد حتى غرم لشريك قيمته وكذلك التقييد انتهى‏.‏ والحديث الذي ذكره أخرجه البيهقي وهو منقطع‏.‏

 باب المحاربين وقطاع الطريق

1 - عن قتادة عن أنس‏:‏ ‏(‏أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وتكلموا بالإسلام فاستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم واستاقوا الذود فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏ وزاد البخاري قال قتادة‏:‏ ‏(‏بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهي عن المثلة‏)‏ وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود قال قتادة فحدثني ابن سيرين‏:‏ ‏(‏أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود‏)‏ وللبخاري وأبو داود في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا‏)‏ وفي رواية النسائي ‏(‏فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم‏)‏‏.‏

2 - وعن سليمان التيمي عن أنس قال‏:‏ ‏(‏إنما سمل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة‏)‏‏.‏

رواه مسلم والنسائي والترمذي‏.‏

3 - وعن أبي الزناد‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه اللّه في ذلك فأنزل ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا‏}‏ الآية‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والنسائي‏.‏

4 - وعن ابن عباس في قطاع الطريق‏:‏ ‏(‏إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض‏)‏‏.‏

رواه الشافعي في مسنده‏.‏

حديث أبي الزناد مرسل وقد سكت عنه أبو داود ولم يذكر المنذري له علة غير إرساله ورجال هذا المرسل رجال الصحيح وقد وصله أبو الزناد من طريق عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عمر عن عمر كما في سنن أبي داود في الحدود ويؤيده ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن ناسًا أغاروا على إبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مؤمنًا فبعث في آثارهم فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم قال فنزلت فيهم آية المحاربة‏)‏ وعند البخاري وأبي داود عن أبي قلابة أنه قال في العرنيين فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللّه ورسوله وهو يشير إلى أنهم سبب الآية‏.‏

وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عمر أن الآية نزلت في العرنيين وأثر ابن عباس في إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس وأخرجه البيهقي من طريق محمد بن سعيد العوفي عن آبائه إلى ابن عباس في قوله إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله قال إذا حارب فقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته فإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب وإن لم يقتل فعليه قطع اليد والرجل من خلاف وإذا حارب وأخاف السبيل فإنما فعليه النفي ورواه أحمد بن حنبل في تفسيره عن أبي معاوية عن عطية به نحوه‏.‏

وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض‏}‏ إلى ‏{‏غفور رحيم‏}‏ نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدروا عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من عكل وعرينة‏)‏ في رواية للبخاري من عكل أو عرينة بالشك ورواية الكتاب هي الصواب كما قال الحافظ ويؤيدها ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال‏:‏ ‏(‏كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل‏)‏ وزعم الداودي وابن التين أن عرين هم عكل وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان فعكل من عدنان وعرينة من قحطان‏.‏ وعكل بضم العين المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرباب وعرينة بالعين والراء المهملتين والنون مصغرًا حي من قضاعة وحي من بجيلة والمراد هنا الثاني كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي وكذا رواه الطبري من وجه آخر عن أنس ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة بإسناد ساقط أنهم من بني فزارة وهو غلط لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلًا وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد وكانت في جمادى الآخرة سنة ست وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاستوخموا المدينة‏)‏ في رواية‏:‏ ‏(‏اجتووا المدينة‏)‏ قال ابن فارس‏:‏ اجتويت المدينة إذا كرهت المقام فيها وإن كنت في نعمة وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة وهو المناسب لهذه القصة‏.‏ وقال القزاز‏:‏ اجتووا أي لم يوافقهم طعامها‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ الجوى داء يأخذ من الوباء ورواية استوخموا بمعنى هذه الرواية‏.‏ وللبخاري في الطب من رواية ثابت عن أنس‏:‏ ‏(‏أن ناسًا كان بهم سقم قالوا يا رسول اللّه آونا وأطعمنا فلما صحوا قالوا إن المدينة وخمة‏)‏ والظاهر أنهم قدموا سقامًا فلما صحوا من السقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها فأما السقم الذي كان بهم فهو الهزال الشديد والجهد من الجوع كما رواه أبو عوانة عن أنس أنه كان بهم هزال شديد وعنده من رواية أبي سعيد مصفرة ألوانهم وأما الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حمى المدينة كما رواه أحمد عن أنس وذكر البخاري في الطب عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دعا اللّه أن ينقلها إلى الجحفة‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمر لهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بذود وراع‏)‏ قد تقدم تفسير الذود في الزكاة‏.‏ وفي رواية للبخاري وغيره فأمرهم بلقاح أي أمرهم أن يلحقوا بها وفي أخرى له فأمر لهم بلقاح واللقاح بكسر اللام وبعدها قاف وآخره مهملة النوق ذوات الألبان واحدتها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليشربوا من أبوالها‏)‏ استدل به من قال بطهارة أبوال الإبل وقاس سائر المأكولات عليها وقد تقدم الكلام على ذلك في أوائل الكتاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بناحية الحرة‏)‏ هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقتلوا راعي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏ اسمه يسار بياء تحتانية ثم مهملة خفيفة كما ذكره الطبراني وابن إسحاق في السيرة‏.‏

وفي لفظ لمسلم أنهم قتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد جزع فقال قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ولم أقف على اسم الراعي الآتي بالخبر والظاهر أنه راعي إبل الصدقة ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فبعث الطلب في آثارهم ذكر ابن إسحاق عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث خيلًا من المسلمين أميرهم كرز بن جابر الفهري وكرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي وفي رواية للنسائي‏:‏ ‏(‏فبعث في طلبهم قافة‏)‏ أي جمع قايف ولمسلم أنهم شباب من الأنصار قريب من عشرين رجلًا وبعث معهم قائفًا يقتص آثارهم‏.‏

وفي مغازي موسى بن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد وذكر غيره أنه سعد بن زيد الأشهلي والأول أنصاري ويمكن الجمع بأن كل واحد منهما أمير قومه وكرز أمير الجميع‏.‏

وفي رواية للطبراني وغيره من حديث جرير بن عبد اللّه البجلي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعثه في آثارهم وإسناده ضعيف والمعروف أن جريرًا تأخر إسلامه عن هذا الوقت بمدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمر بهم‏)‏ فيه حذف تقديره فأدركوا فأخذوا فجيء بهم فأمر بهم‏.‏ وفي رواية للبخاري فلما ارتفع النهار جيء بهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسمروا أعينهم‏)‏ بالسين المهملة وتشديد الميم‏.‏ وفي رواية للبخاري وسمرت أعينهم‏.‏ وفي رواية لمسلم وسمل أعينهم بتخفيف الميم واللام قال الخطابي‏:‏ السمر لغة في السمل ومخرجهما متقارب قال‏:‏ وقد يكون من المسمار يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت قال والسمل فقء العين بأي شيء كان قال أبو ذؤيب الهذلي‏:‏

والعين بعدهم كأن حداقها * سملت بشوك فهي عورا تدمع

وقد وقع التصريح بمعنى السمر في الرواية المذكورة في الباب بلفظ فأمر بمسامير الخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما حسمهم‏)‏ أي لم يكوي ما قطع منهم بالنار لينقطع الدم بل تركه ينزف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يستسقون فما سقوا‏)‏ في رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا‏)‏ وفي أخرى له‏:‏ ‏(‏يعضون الحجارة‏)‏ وفي أخرى له في الطب قال أنس فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت‏.‏ وفي رواية لأبي عوانة من هذا الوجه يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصلبهم‏)‏ حكى في الفتح عن الواقدي أنهم صلبوا قال‏:‏ والروايات الصحيحة ترده لكن عند أبي عوانة عن أنس فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين وهذا يدل على أنهم ستة فقط وقد تقدم ما يدل على أنهم سبعة وفي البخاري في الجهاد عن أنس‏:‏ ‏(‏أن رهطًا من عكل ثمانية‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأنهم سملوا أعين الرعاة‏)‏ فيه دليل على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك بهم اقتصاصًا لما فعلوه بالرعاة وإلى ذلك مال جماعة منهم ابن الجوزي وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المثلة وقعت في حقهم من جهات وليس في الحديث إلا السمل فيحتاج إلى ثبوت البقية وقد نقل أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ‏.‏

قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة هذا الحديث ينسخ كل مثلة وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ ويجاب عن هذا التعقب بحديث أبي الزناد المذكور فإن معاتبة اللّه لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم تدل على أن ذلك الفعل غير جائز ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد في حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه‏.‏ وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي عنه ويؤيده أيضًاما في الباب عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود وأصرح من الجميع ما في الباب عن قتادة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك نهى عن المثلة وإلى هذا مال البخاري وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء للإجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا وقع منه نهي عن سقيهم انتهى‏.‏ وتعقب بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وسكت والسكوت كاف في ثبوت الحكم وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره وبدل عليه أن من معه ماء لطهارته فقط لا يسقي المرتد ويتيمم بل يستعمله ولو مات المرتد عطشًا‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ إنما فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بهم ذلك لأنه أراد بهم الموت بذلك وقيل إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن ابن عباس في قطاع الطريق‏)‏ أي الحكم فيهم هو المذكور وقد حكى في البحر عن ابن عباس والمؤيد باللّه وأبي طالب والحنفية والشافعية أن الآية أعني قوله تعالى ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله‏}‏ نزلت في قطاع الطريق المحاربين وعن ابن عمر والهادي أنها نزلت في العرنيين ويدل على ذلك حديث أبي الزناد المذكور في الباب وحكى المؤيد باللّه وأبو طالب عن قوم إنها نزلت في المشركين ورد ذلك بالإجماع على أنه لا يفعل بالمشركين كذلك ويدفع هذا الرد بما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس إنها نزلت في المشركين وقد دعا له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعلم التأويل‏.‏

وقد ذهب أكثر العترة والفقهاء إلى أن المحارب هو من أخاف السبيل في غير المصر لأخذ المال وسواء أخاف المسلمين أو الذميين قال الهادي وأبو حنيفة إن قاطع الطريق في المصر أو القرية ليس محاربًا للحوق الغوث بل مختلسًا أو منتهبًا وفي رواية عن مالك إذا كانوا على ثلاثة أميال من المصر أو القرية فمحاربون لا دون ذلك إذ يلحقه الغوث وفي رواية أخرى عن مالك لا فرق بين المصر وغيره لأن الآية لم تفصل وبه قال الأوزاعي وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد والشافعي والناصر والإمام يحيى وإذا لم يكن قد أحدث المحارب غير الإخافة عزره الإمام فقط قال أبو طالب وأصحاب الشافعي ولا نفي مع التعزير وأثبته المؤيد باللّه فإن وقع منه القتل فقط فذهبت العترة والشافعي إلى أنه يقتل فقط‏.‏ وعن أبي حنيفة ليس بمحارب إن قتل بمثقل فإن قتل وأخذ المال فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والهادي والمؤيد باللّه وأبو طالب إلى أنه يقتل ويصلب ولا قطع لدخوله في القتل وقال الناصر وأبو العباس بل يخير الإمام بين أن يصلب ويقتل أو يقتل ثم يصلب أو يقطع ثم يقتل أو يقطع ويقتل ويصلب لأن أو للتخيير وقال مالك إذا شهروا السلاح وأخافوا لزمهم ما في الآية‏.‏

وقال الحسن البصري وابن المسيب ومجاهد إذا أخافوا خير الإمام بين أن يقتل فقط أو يقتل ويصلب أو يقطع الرجل واليد فقط أو يحبس فقط لأجل التخيير‏.‏

وقال أبو الطيب بن سلمة من الشافعية وحصله صاحب الوافي للهادي أنهم إذا أخذوا المال وقتلوا قطعوا للمال ثم قتلوا للقتل ثم صلبوا للجمع بين الأخذ والقتل قال أبو حنيفة والهادوية فإن قتل وجرح قتل فقط لدخول الجرح في القتل وقال الشافعي بل يجرح ثم يقتل إذ هما جنايتان والنفي المذكور في الآية هو طرد سنة عند الهادي والشافعي وأحمد والمؤيد باللّه وأبي طالب وقال الناصر وأبو حنيفة وأصحابه بل الحبس فقط إذ القصد دفع أذاه وإذا كان المحاربون جماعة واختلفت جناياتهم فذهبت العترة والشافعي إلى أنه يحد كل واحد منهم بقدر جنايته‏.‏

وقال أبو حنيفة بل يستوون إذ المعين كالقاتل واختلفوا هل يقدم الصلب على القتل أو العكس فذهب الشافعي والناصر والإمام يحيى إلى أنه يقدم الصلب على القتل إذ المعنى يقتلون بالسيف أو بالصلب‏.‏

وقال الهادي وأبو حنيفة وهو مروي عن الشافعي رحمه اللّه أنه لا صلب قبل القتل لأنه مثلة وجعل الهادي أو بمعنى الواو ولذلك قال بتقدم القتل على الصلب وقال بعض أصحاب الشافعي يصلب قبل القتل ثلاثًا ثم ينزل فيقتل‏.‏

وقال بعض أصحاب الشافعي أيضًايصلب حتى يموت جوعًا وعطشًا وقال أبو يوسف والكرخي يصلب قبل القتل ويطعن في لبته وتحت ثديه الأيسر ويخضخض حتى يموت وروى الرازي عن أبي بكر الكرخي أنه لا معنى للصلب بعد القتل واختلفوا في مقدار الصلب فقال الهادي حتى تنتثر عظامه وقال ابن أبي هريرة حتى يسيل صديده‏.‏ وقال بعض أصحاب الشافعي ثلاثًا في البلاد الباردة وفي الحارة ينزل قبل الثلاث وقال الناصر والشافعي ينزل بعد الثلاث ثم يقتل إن لم يمت ويغسل ويصلى عليه إن تاب وقد رجح صاحب البحر أن الآية للتخيير وتكون العقوبة بحسب الجنايات وأن التقدير أن يقتلوا إذا قتلوا ويصلبوا بعد القتل إذا قتلوا وأخذوا المال وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا فقط أو ينفوا من الأرض إذا أخافوا فقط إذ محاربة اللّه ورسوله بالفساد في الأرض متنوعة كذلك وهو مثل تفسير ابن عباس المذكور في الباب‏.‏ وقال صاحب المنار إن الآية تحتمل التخيير احتمالًا مرجوحًا قال‏:‏ والظاهر أن المراد حصر أنواع عقوبة المحاربة مثل‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ وهو مثل ما قاله صاحب البحر يعني في كلامه الذي ذكرناه قبل هذا ورجح صاحب ضوء النهار اختصاص أحكام المحارب بالكافر لتتم فوائد وتندفع مفاسد ثم ذكر ذلك وهو كلام رصين لولا أنه قصر للعام على السبب المختلف في كونه هو السبب وللعلماء في تفصيل أحكام المحاربين أقوال منتشرة مبسوطة في كتب الخلاف وقد أوردنا منها في هذا الشرح طرفًا مفيدًا‏.‏

 ‏باب قتال الخوارج وأهل البغي

1‏-‏ ‏‏(‏‏عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏‏:‏‏ ‏‏(‏سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة ‏‏}‏‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

‏2 ‏-‏ ‏‏(‏‏وعن زيد بن وهب رضي الله عنه‏:‏‏ أنه كان في الجيش الذين كانوا مع أمير المؤمنين علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال‏ علي‏:‏‏ أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏‏ يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض‏.‏ قال‏:‏‏ فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكونوا هم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله‏.‏ قال سلمة بن كهيل‏:‏‏ فنزلني زيد بن وهب منزلا منزلا حتى قال‏:‏‏ مررنا على قنطرة فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم‏:‏‏ ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم قال‏:‏‏ وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه‏:‏‏ التمسوا فيهم المخدج فالتمسوه فلم يجدوه فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناسًا قد قتل بعضهم على بعض قال‏:‏‏ أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال‏:‏‏ صدق الله وبلغ رسوله قال‏:‏‏ فقام إليه عبيدة السلماني فقال‏:‏‏ يا أمير المؤمنين آلله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثًا وهو يحلف له ‏‏}‏‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏باب قتال الخوارج‏)‏‏ هم جمع خارجة‏:‏‏ أي طائفة سموا بذلك لخروجهم عن الدين وابتداعهم أو خروجهم عن خيار المسلمين‏.‏ وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته كذا قال وهو خلاف ما قاله أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه شيئًا ويتبرءون منه وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة إلا أنهم يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون بآرائهم ويبالغون في الزهد والخشوع فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليًافلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك فبلغ عليًافخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر على وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة‏.‏

‏فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك‏.‏ وكان علي أرسل إليه أن يبايع له أهل الشام فاعتل بأن عثمان قتل مظلومًا وأنها تجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك وعلي يقول‏:‏‏ ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم بالحق‏.‏

‏فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبًا قتال أهل الشام فخرج معاوية في أهل الشام قاصدًا لقتاله فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهم أشهرًا وكاد معاوية وأهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا‏:‏‏ ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية فترك القتال جمع كثير ممن كان مع علي خصوصًا القراء بسبب ذلك تدينًا‏.‏ واحتجوا بقوله تعالى‏:‏‏ ‏‏{‏‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ‏‏}‏‏ الآية فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا‏‏:‏‏ ابعثوا حكمًا منكم وحكمًا منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك الطائفة التي صارت خوارج وفارقوا عليًاوهم ثمانية آلاف‏.‏

‏وقيل‏:‏‏ كانوا أكثر من عشرة آلاف وقيل ستة آلاف ونزلوا مكانًا يقال له حروراء بفتح الحاء المهملة وراءين مهملتين الأولى مضمومة ومن ثم قيل لهم‏:‏‏ الحرورية وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري وشبث بفتح الشين المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه ثم خرج إليهم علي فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة ومعهم رئيساهم المذكوران ثم أشاعوا أن عليًاتاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه فبلغ ذلك عليًافخطب وأنكر ذلك فتنادوا من جانب المسجد‏:‏‏ لا حكم إلا لله فقال‏:‏‏ كلمة حق يراد بها باطل فقال لهم‏:‏‏ لكم علينا ثلاث أن نمنعكم من المساجد ومن رزقكم من الفيء ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فسادًا ‏وخرجوا شيئًا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن فراسلهم علي في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب ثم راسلهم أيضًافأرادوا قتل رسوله ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله واستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت واليًا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سريته وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد فبلغ عليًافخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم في النهروان ولم ينجُ منه إلا دون العشرة ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة فهذا ملخص أول أمرهم ثم انضم إلى من بقي منهم ممن مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم ابن ملجم لعنه الله الذي قتل عليًارضي الله عنه بعد أن دخل في‏ صلاة الصبح‏.‏

‏ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النخيلة وكانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه طول مدة ولاية معاوية وابنه يزيد لعنهم الله وظفر زياد وابنه بجماعة منهم فأبادهم بين قتل وحبس طويل فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولي الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام وثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام ثم مصر فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق باليمامة ومع نجدة بن عامر ‏‏وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا السارق من الإبط وأوجبوا الصلاة على الحائض في حيضها وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرًا وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقًا وفتكوا في المنتسبين إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة ومنهم من يدعو أولاً ثم يفتك ولم يزل البلاء بهم إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم وتفلل جمعهم ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية ودخلت طائفة منهم المغرب‏.‏

‏وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى كتابًا لخصه الطبري في تاريخه‏.‏ وصنف في أخبارهم أيضًاالهيثم بن عدي كتابًا ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح كتابًا كبيرًاوجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه الكامل لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين من قبله هذا خلاصة معتقد الخوارج والسبب الذي لأجله خرجوا وهو مجمع عليه عند علماء الأخبار وبه يتبين بطلان ما حكاه الرافعي في كلامه السالف‏.‏ وقد وردت بما ذكرنا من أصل حال الخوارج أخبار جياد‏:‏‏ منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري‏.‏ وأخرج نحوه الطبري عن يونس عن الزهري‏.‏ وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة عن أبي رزين‏.‏

‏قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏‏ الخوارج صنفان‏:‏‏ أحدهما يزعم أن عثمان وعليًاوأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار‏.‏

والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدًا‏.‏ وقال غيره‏:‏‏ بل الصنف الأول متفرع عن الصنف الثاني لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏‏ ذهب نجدة بن عامر الحروري من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار ومن أدمن على صغيرة فهو كمن ارتكب الكبيرة في التخليد في النار‏.‏

‏وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس‏.‏

‏وقال‏:‏‏ الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه‏.‏ وقال أبو منصور البغدادي في المقالات‏:‏ عدة فرق والخوارج عشرون فرقة‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏‏ أسوءهم حالا الغلاة المذكورون وأقربهم إلى قول الحق الإباضية وقد بقيت منهم بقية بالمغرب‏.‏ قال الغزالي في الوسيط تبعًا لغيره‏:‏‏ في حكم الخوارج وجهان‏:‏‏ أحدهما‏:‏‏ أن حكمهم حكم أهل الردة والثاني أنه كحكم أهل البغي ورجح الرافعي الأول‏.‏ قال في الفتح‏:‏‏ وليس الذي قاله مطردا في كل خارجي فإنهم على قسمين‏:‏‏ أحدهما‏:‏‏ من تقدم ذكره والثاني‏:‏‏ من خرج في طلب الملك لا للادعاء إلى معتقده وهم على قسمين أيضا‏:‏‏ قسم خرجوا غضب للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية ‏ فهؤلاء أهل حق ومنهم‏:‏‏ الحسين بن علي رضي الله عنه وأهل المدينة في وقعة الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج‏.‏ وقسم خرجوا لطلب الملك فقط سواء كانت لهم فيه شبهة أو لا وهم البغاة وسيأتي بيان حكمهم قوله‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏في آخر الزمان‏‏)‏‏ ظاهر هذا يخالف ما بعده من أحاديث الباب من خروجهم في خلافة علي‏.‏ وأجاب ابن التين بأن المراد زمان الصحابة قال الحافظ‏:‏‏ وفيه نظر لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة‏.‏ ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة لما في حديث سفينة عند أهل السنن وابن حبان في صحيحه مرفوعا‏:‏‏ ‏‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا‏)‏‏ وكانت قصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في آخر خلافة علي سنة ثماني وثلاثين من الهجرة وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بدون ثلاثين سنة‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏حداث الأسنان‏)‏‏ بحاء مهملة ثم دال مهملة أيضًاثم بعد الألف مثلثة جمع حدث بفتحتين والحدث‏:‏‏ هو الصغير السن هكذا في أكثر الروايات وفي رواية السرخسي حداث بضم أوله وتشديد الدال قال في المطالع معناه شباب وقال ابن التين‏:‏حداث جمع حديث مثل كرام جمع كريم وكبار جمع كبير والحديث‏:‏‏ الجديد من كل شيء ويطلق على الصغير بهذا الاعتبار‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏سفهاء الأحلام‏‏)‏‏ جمع حلم بكسر أوله والمراد به العقل والمعنى أن عقولهم رديئة‏.‏

‏قال النووي‏:‏‏ يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏يقولون من قول خير البرية‏)‏‏ قيل‏:‏‏ هو القرآن ويحتمل أن يكون على ظاهره‏:‏‏ أي القول الحسن في الظاهر والباطن على خلافه كقولهم ‏‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏لا يجاوز إيمانهم حناجرهم‏)‏‏ الحناجر بالحاء المهملة والنون ثم الجيم جمع حنجرة بوزن قسورة وهي الحلقوم والبلعوم وكله يطلق على مجرى النفس وهو طرف المريء مما يلي الفم والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب‏.‏

‏وفي حديث زيد بن وهب المذكور ‏‏(‏لا تجاوز صلاتهم تراقيهم‏)‏ فكأنه أطلق الإيمان على الصلاة‏.‏

‏وفي رواية أبي سعيد الآتية يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم وفي رواية مسلم ‏‏:‏‏(‏‏ يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه‏)‏‏‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏يمرقون من الدين‏)‏‏ في رواية للنسائي والطبري‏:‏‏ ‏(‏‏يمرقون من الإسلام‏)‏‏ وكذا المذكور ‏‏(‏ يمرقون من الإسلام‏)‏ وفي رواية للنسائي ‏(‏يمرقون من الحق‏)‏‏ وفيها رد على من فسر الدين هنا بالطاعة‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏ بفتح الراء وكسر الميم وتشديد التحتانية‏:‏‏ أي الشيء الذي يرمى به‏.‏ وقيل المراد بالرمية الغزالة المرمية‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏‏ في مذكورة ‏(‏لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏لنكلوا عن العمل‏)‏‏ أي تركوا الطاعات واكتفوا بثواب قتلهم‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏وآية ذلك‏)‏‏ أي علامته كما وقع في رواية الطبري‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏على عضده‏)‏ في حديث أبي سعيد الآتي ‏(‏آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة‏)‏‏ وسيأتي تفسير ذلك‏.‏

والشعيرات بالتصغير جمع شعرة‏.‏ واسم ذي الثدية هذا نافع كما أخرجه أبو داود من طريق أبي مريم‏.‏ قال‏:‏‏ إن كان ذلك المخدج لمعنا في المسجد كان فقيرًا وقد كسوته برنسًا ورأيته شهد طعام علي كان يسمى نافعًا ذا الثدية وكان يده مثل ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعيرات مثل سبال السنور‏.‏

‏وفي رواية لأبي الوضيء بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة عند أبي داود ‏(‏إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة عليه شعيرات مثل شعيرات تكون على ذنب اليربوع‏)‏‏ وسيأتي عن بعضهم أن اسم المخدج حرقوص‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏في سرح الناس‏)‏‏ بفتح السين المهملة وسكون الراء بعدها حاء مهملة‏:‏‏ وهو المال السائم‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏فنزلني زيد بن وهب منزلا منزلا‏)‏‏ بفتح النون من نزلني وتشديد الزاي‏:‏‏ أي حكى لي سيرهم منزلا منزلا‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏فوحشوا برماحهم‏)‏‏ بالحاء المهملة والشين المعجمة‏:‏‏ أي رموها بعيدًا قال في القاموس‏:‏ وحش بثوبه كوعد‏:‏‏ رمى به مخافة ‏‏.‏

‏ قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏وشجرهم الناس‏)‏‏ بفتح الشين المعجمة والجيم والراء‏.‏ قال في القاموس‏:‏‏ اشتجروا تخالفوا كتشاجروا ثم قال‏:‏‏ وبالرمح طعنه ثم قال‏:‏‏ والشجر‏:‏‏ الأمر المختلف‏.‏ ‏ا‏هـ‏ ‏‏.‏

والرماح الشواجر‏:‏المختلف بعضها في بعض والمراد هنا أن الناس اختلفوا برماحهم وطعنوهم بها ‏‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان‏)‏‏ هذا يخالف ما قدمنا عن أهل التاريخ أنه قتل من أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نحو العشرة‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏المخدج‏)‏‏ بخاء معجمة وجيم وهو الناقص‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏(‏فقال ‏الذي لا إله إلا هو‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏)‏‏‏.‏ قال النووي‏:‏‏ إنما استحلفه ليؤكد الأمر عند السامعين وليظهر معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وأن عليًاومن معه على الحق‏.‏ قال الحافظ‏:‏‏ وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار إليه علي أن الحرب خدعة فخشي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئًا منصوصًا وإلى ذلك يشير قول عائشة لعبد الله بن شداد لما سألته ما قال علي ‏‏؟‏‏ فقال‏:‏‏ سمعته يقول‏:‏‏ صدق الله ورسوله قالت‏:‏‏ يرحم الله عليًاإنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال‏:‏‏ صدق الله ورسوله فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه ويزيدون فمن هذا أراد عبيدة التثبت في هذه القصة بخصوصها‏.‏

3 ‏-‏ ‏‏(‏‏وعن أبي سعيد قال‏:‏‏ بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم قال‏:‏‏ يا رسول الله اعدل فقال‏:‏‏ ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه ‏‏؟‏‏ فقال‏:‏‏ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه ‏-‏ وهو قدحه ‏-‏ فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس‏)‏‏ قال أبوسعيد فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته ‏.‏

‏4 ‏-‏ ‏‏(‏‏وعن أبي سعيد قال‏:‏‏ بعث علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة‏:‏‏ الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن بدر الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد والأنصار قالوا‏:‏‏ يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق فقال‏:‏‏ اتق الله يا محمد فقال‏:‏‏ من يطع الله إذا عصيت ‏‏؟‏‏ أيأمنني على أهل الأرض فلا تأمنوني‏ فسأله رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد فمنعه فلما ولى قال‏:‏‏ إن من ضئضئ هذا ‏-‏ أو في عقب هذا ‏-‏ قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن هم قتل عاد ‏‏}‏‏ ‏‏.‏ متفق عليهما ‏ ‏‏‏,‏‏ ‏‏(‏‏وفيه دليل على أن من توجه عليه تعزير لحق الله جاز للإمام تركه وأن قوما لو أظهروا رأي الخوارج لم يحل قتلهم بذلك وإنما يحل إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرض

‏5 ‏-‏ ‏‏(‏‏وعن أبي سعيد قال‏:‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ ‏(‏ تكون أمتي فرقتين فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحق وفي لفظ‏:‏‏ تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق‏)‏‏‏.‏ رواههما أحمد ومسلم‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم‏)‏‏ بفتح الأول من يقسم ولم يذكر المقسوم‏.‏ وقد ذكره في الرواية الثانية من طريق عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد أن المقسوم ذهيبة بعثه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن فقسمه النبي بين الأربعة المذكورين‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏ذو الخويصرة‏)‏‏ بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون التحتية وكسر الصاد المهملة بعدها راء واسمه حرقوص بن زهير التميمي‏.‏ وقد ذكر حرقوصا في الصحابة أبو جعفر الطبري وذكر أن له في فتوح العراق أثر وأنه الذي افتتح سوق الأهواز ثم كان مع علي في حروبه ثم صار مع الخوارج فقتل معهم وزعم بعضهم أنه ذو الثدية ووقع نحو ذلك في رواية للطبري عن أبي مريم قال الحافظ‏:‏‏ وليس بذلك‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏اعدل‏)‏‏ في الرواية الثانية المذكورة فقال‏:‏‏ ‏‏(‏اتق الله يا محمد‏)‏‏ وفي حديث ابن عمرو عند البزار والحاكم فقال‏:‏‏ ‏(‏يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل‏)‏‏ وفي لفظ آخر له ‏(‏اعدل يا محمد‏)‏‏‏.‏

‏وفي حديث أبي بكرة ‏(‏والله يا محمد ما تعدل‏)‏

‏وفي لفظ‏:‏‏ ‏(‏ ما أراك عدلت‏)‏ ونحوه في حديث أبي برزة‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏ويلك‏)‏‏ في لفظ للبخاري ‏‏:‏‏(‏‏ ويحك‏)‏ وهي رواية الكشميهني والرواية الأولى رواية شعيب والأوزاعي‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏فمن يعدل إذا لم أعدل‏)‏‏ في رواية للبخاري ‏(‏من يطع الله إذا عصيته‏)‏ ‏‏ ولمسلم‏:‏‏ ‏(‏أولست أحق أهل الأرض أن أطيع الله ‏‏؟‏‏‏)‏‏ وفي حديث ابن عمر‏:‏‏ ‏(‏وممن يلتمس العدل بعدي ‏‏؟‏‏‏)‏‏ وفي رواية له ‏(‏العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون ‏‏؟‏‏‏)‏ وفي حديث أبي بكرة ‏‏(‏‏فغضب حتى احمرت وجنتاه‏)‏‏.‏

‏وفي حديث أبي برزة ‏(‏فغضب غضبًا شديدًا وقال‏:‏‏ والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل عليكم مني‏)‏‏

‏‏.‏‏ قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏فقال عمر‏:‏‏ أتأذن لي فيه فأضرب عنقه‏)‏‏ في حديث أبي سعيد الآخر المذكور فسأله رجل ‏‏(‏ أحسبه خالد بن الوليد‏)‏‏ وفي رواية لمسلم ‏(‏فقال خالد بن الوليد‏)‏ ‏ بالجزم ويجمع بينهما بأن كل واحد منهما سأله ويؤيد ذلك ما وقع في مسلم بلفظ‏:‏‏ ‏(‏فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏‏ يا رسول الله ألا أضرب عنقه ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ لا‏)‏‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏دعه‏)‏‏ في رواية للبخاري ‏(‏لا‏)‏ وفي أخرى ‏(‏ما أنا بالذي أقتل أصحابي‏)‏‏‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏فإن له أصحابا‏)‏‏ ظاهر هذا أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابا على الصفة المذكورة وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري فإنه بوب على هذا الحديث‏:‏‏ باب من ترك قتال الخوارج للتأليف ولئلا ينفر الناس عنه لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة من إظهار الإسلام فلو أذن في قتلهم لكان في ذلك تنفير عن دخول غيرهم في الإسلام‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم‏)‏‏ في رواية بصيغة الإفراد ويحقر بفتح أوله‏:‏‏ أي يستقل‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏لا يجاوز تراقيهم‏)‏‏ بمثناة فوقية وقاف جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها‏.‏ وقيل‏:‏‏ لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده‏.‏ وقال النووي‏:‏‏ المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن قلوبهم ‏ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ‏‏ تقدم تفسيره في أول الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينظر إلى نصله‏)‏‏ أي نصل السهم وهو الحديدة المركبة فيه والمراد أنه ينظر إلى ذلك ليعرف هل أصاب أم أخطأ فإنه إذا لم يره علق به شيء من الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه والفرض أنه أصابه وإلى ذلك أشار بقوله‏:‏‏ قد سبق الفرث والدم‏:‏‏ أي جاوزهما ولم يتعلق به منهما شيء بل خرجا بعده‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏ثم ينظر إلى رصافه‏)‏‏ الرصاف اسم للعقب الذي يلوى فوق الرغظ من السهم يقال‏:‏‏ رصف السهم شد على رغظه عقبه كذا في القاموس‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏ثم ينظر إلى نضيه‏)‏‏ بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وتشديد الياء‏.‏ قال في القاموس هو سهم فسد من كثرة ما رمي به قال‏:‏‏ والنضي كغني‏:‏‏ السهم بلا نصل ولا ريش‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏ثم ينظر إلى قذذه‏)‏‏ جمع قذة بضم القاف وتشديد الذال المعجمة‏:‏‏ وهي ريش السهم والمراد أن الرامي إذا أراد أن يعرف هل أصاب أم لا ‏‏؟‏‏ نظر إلى السهم والنصل هل بهما شيء من الدم فإن لم يجد قال‏:‏‏ إن كنت أصبت فإن بالنضي أو الريش شيئا من الدم فإذا نظر فلم يجد شيئا عرف أنه لم يصب وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للخوارج أبان به أنهم يخرجون من الإسلام لا يعلق بهم منه شيء كما أنه لم يعلق بالسهم من الدم والفرث شيء‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏أو مثل البضعة‏)‏‏ بفتح الموحدة وسكون المعجمة القطعة من اللحم‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏تدردر‏)‏‏ بفتح أوله ودالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وآخره راء وهو على حذف إحدى التاءين وأصله تتدردر ومعناه تتحرك وتذهب وتجيء وأصله حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع ‏‏.‏

‏ قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏يخرجون على حين فرقة من الناس‏)‏‏ في كثير من الروايات ‏(‏ حين فرقة‏)‏‏ بكسر الحاء المهملة وآخره نون ويؤيد هذه الرواية الرواية المذكورة في الباب عن أبي سعيد بلفظ‏:‏‏ ‏(‏عند فرقة من الناس‏)‏ و ‏في رواية لأحمد وغيره ‏(‏حين فترة من الناس‏)‏‏ بفتح الفاء وسكون المثناة الفوقية ووقع للكشميهني ‏‏(‏ خير فرقة‏)‏‏ بفتح الخاء المعجمة وآخره راء وفرقة بكسر الفاء والرواية الأولى هي المعتمدة‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏‏ فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم‏)‏‏ في رواية للبخاري‏:‏‏ ‏(‏وأشهد أن عليًاقتلهم‏)‏‏ نسب القتل إلى علي لكونه كان القائم في ذلك ‏

‏.‏‏ قوله ‏‏:‏بذهيبة بضم الذال المعجمة وفتح الهاء تصغير ذهبة ‏‏.‏

‏ قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏وعلقمة بن علاثة العامري‏)‏‏ بضم العين المهملة وبالمثلثة‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏صناديد أهل نجد‏)‏‏ جمع صنديد‏:‏‏ وهو الشجاع أو الحليم أو الجواد أو الشريف على ما في القاموس‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏غائر العينين‏)‏ بالغين ا‏لمعجمة والمراد أن عينيه منحدرتان عن الموضع المعتاد ووجنتيه مشرفتان‏:‏‏ أي مرتفعتان عن المكان المعتاد وجبينه ناتئ أي بارز‏.‏

قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏محلوق‏)‏‏ أي رأسه جميعه محلوق‏.‏ وقد ورد ما يدل على أن حلق الرءوس من علامات الخوارج كما في حديث أبي سعيد عند أبي داود والطبراني بلفظ‏:‏‏ ‏‏(‏ قيل‏:‏‏ يا رسول الله ما سيماهم ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ التحليق‏)‏‏.‏

‏وفي رواية أخرى من حديثه بلفظ‏:‏‏ ‏‏(‏ فقام رجل فقال‏:‏‏ يا نبي الله هل في هؤلاء القوم علامة ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ يحلقون رؤوسهم‏)‏‏.‏

‏قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏من ضئضئ‏)‏‏ بضادين معجمتين مكسورتين بينهما همزة ساكنة وآخره همزة قال في القاموس‏:‏‏ الضئضئ كجرجر وجرجير والضؤضؤ كهدهد وسرسور‏:‏‏ الأصل والمعدن أو كثرة النسل وبركته انتهى ‏‏.‏

‏ قوله‏:‏‏ ‏‏(‏‏أولاهما بالحق‏)‏‏ فيه دليل على أن علي ومن معه هم المحقون ومعاوية ومن معهم هم المبطلون وهذا أمر لا يمتري فيه منصف ولا يأباه إلا مكابر متعسف وكفى دليلا على ذلك الحديث‏.‏ وحديث ‏(‏يقتل عمارًا الفئة الباغية‏)‏ وهو في الصحيح‏.‏

‏وقد وردت في الخوارج أحاديث‏.‏ منها‏:‏‏ ما أخرجه الطبري عن أبي بكرة يرفعه‏:‏‏ ‏(‏إن في أمتي أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا لقيتموهم فأنيموهم‏)‏ أي اقتلوهم‏.‏

‏وأخرج الطبري وأبو يعلى أيضًامن رواية مسروق قال‏:‏‏ ‏(‏قالت لي عائشة‏:‏‏ من قتل المخدج ‏‏؟‏‏ قلت‏:‏‏ علي قالت‏:‏‏ فأين ‏‏؟‏‏ قلت‏:‏‏ على نهر يقال لأسفله النهروان قالت‏:‏‏ ائتني على هذا ببينة فأتيتها بخمسين نفسا فشهدوا أن عليًاقتله بالنهروان ‏‏)‏‏.‏‏

‏وأخرج الطبراني في الأوسط من طريق عامر بن سعيد قال عمار لسعد‏:‏‏ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏‏ ‏(‏يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم علي بن أبي طالب ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ إي والله‏)‏‏.‏

‏وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عمران بن حدير عن أبي مجلز قال‏:‏‏ ‏(‏كان أهل النهروان أربعة آلاف فقتلهم المسلمون ولم يقتل من المسلمين سوى تسعة فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فسله فإنه شهد ذلك‏)‏‏.‏ وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال‏‏:‏‏ أتيت أبا وائل فقلت‏:‏‏ أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ لما كان بصفين استحر القتل في أهل الشام فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحكيم فقال الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء فأرسل إليهم علي فرجعوا ثم قالوا‏:‏‏ نكون في ناحية فإن قبل القضية قاتلناه وإن نقضها قاتلنا معه ثم افترقت منهم فرقة يقتلون الناس فحدث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم‏.‏ وأخرج أحمد والطبراني والحاكم‏ من طريق عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق ليالي قتل علي فقالت له عائشة‏:‏‏ تحدثني عن أمر هؤلاء القوم الذين قتلهم علي قال‏:‏‏ إن عليًالما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها‏:‏‏ حروراء من جانب الكوفة وعتبوا عليه فقالوا‏:‏‏ انسلخت من قميص ألبسكه الله ومن اسم سماك الله به ثم حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله فبلغ ذلك عليًافجمع الناس فدعا بمصحف عظيم فجعل يضربه بيده ويقول أيها المصحف حدث الناس فقالوا ‏‏:‏ماذا تسأل إنما هو مداد وورق ونحن نتكلم بما روينا منه فقال‏:‏‏ كتاب الله بيني وبين هؤلاء يقول الله في امرأة ورجل‏:‏‏ ‏‏{‏‏ وإن خفتم شقاق بينهما ‏‏}‏‏ الآية‏.‏ وأمة محمد أعظم من امرأة ورجل ونقموا على أن كاتبت معاوية وقد كاتب رسول الله صلى الله عليه سهيل ابن عمرو ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ثم بعث إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف منهم عبد الله بن الكواء فبعث علي إلى الآخرين أن يرجعوا فأبوا فأرسل إليهم‏:‏‏ كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب‏.‏ قال عبد الله بن شداد‏:‏‏ فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام‏)‏ ‏الحديث‏.‏ وأخرج النسائي في الخصائص صفة مناظرة ابن عباس لهم بطولها ‏.‏

‏وفي الأوسط للطبراني عن جندب بن عبد الله البجلي قال‏:‏‏ ‏‏(‏ لما فارقت الخوارج عليًاخرج في طلبهم فانتهينا إلى عسكرهم فإذا له دوي كدوي النحل من قراءة القرآن وإذا فيهم أصحاب البرانس‏:‏‏ يعني الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة قال فدخلني من ذلك شدة فنزلت عن فرسي وقمت أصلي وقلت‏:‏‏ اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك طاعة فأذن لي فيه فمر بي علي فقال لما حاذاني‏:‏‏ نعوذ بالله من الشك يا جندب فلما جئته أقبل رجل على برذون يقول‏:‏‏ إن كان لك بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا النهر قال‏:‏‏ ما قطعوه ثم جاء آخر كذلك ثم جاء آخر كذلك قال‏:‏‏ لا ما قطعوه ولا يقطعونه وليقتلن من دونه عهد من الله ورسوله قلت‏:‏‏ الله أكبر ثم ركبنا فسايرته فقال لي‏:‏‏ سأبعث إليهم رجلا يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم فلا يقبل علينا بوجهه حتى يرشقوه بالنبل ولا يقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة‏.‏ قال‏:‏‏ فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلا فرماه إنسان فأقبل علينا بوجهه فقعد‏.‏ وقال علي‏:‏‏ دونكم القوم فما قتل منا عشرة ولا نجا منهم عشرة‏)‏‏‏.‏

وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن حميد بن هلال قال‏:‏‏ حدثنا رجل من عبد القيس قال‏:‏‏ لحقت بأهل النهروان مع طائفة منهم أسيرًا إذ أتينا على قرية بيننا نهر فخرج رجل من القرية مروعا فقالوا له‏:‏‏ لا روع عليك وقطعوا إليه النهر فقال أنت ابن خباب بن الأرت صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ‏‏؟‏‏ قال‏:‏‏ نعم قالوا‏:‏‏ فحدثنا عن أبيك فحدثهم بحديث ‏(‏تكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن‏)‏‏ فقدموه فضربوا عنقه ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها ‏‏.‏

ولابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز قال‏:‏‏ قال علي لأصحابه‏:‏‏ لا تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حدثا قال‏:‏‏ فمر بهم عبد الله بن خباب فذكر قتلهم له ولجاريته وأنهم بقروا بطنها وكانوا مروا على ساقية فأخذ واحد منها تمرة فوضعها في فيه فقالوا‏:‏‏ له تمرة معاهد فبم استحللتا فقال لهم عبد الله بن خباب‏:‏‏ أنا أعظم حرمة من هذه التمرة فأخذوه فذبحوه فبلغ عليًافأرسل إليهم‏:‏‏ أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب فقالوا‏:‏‏ كلنا قتله فأذن حينئذ في قتالهم‏.‏

‏وأخرج الطبري من طريق أبي مريم قال‏:‏‏ أخبرني أخي أبو عبد الله أن عليًاسار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان أرسل يناشدهم فلم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسوله فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم كلهم‏.‏

‏وقد روي عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف ما أسلفنا في أول الباب أخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال ‏‏(‏جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏‏ يا رسول الله إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه فقال‏:‏ اذهب إليه فاقتله قال‏:‏‏ فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله فرجع فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏‏ اذهب فاقتله فرآه يصلي على تلك الحالة فرجع فقال‏:‏‏ يا علي اذهب فاقتله فذهب علي فلم يره فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية ‏‏)‏‏‏.‏

‏ قال الحافظ‏:‏‏ بعد أن قال إن إسناده جيد‏:‏‏ له شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى‏.‏ قال‏:‏‏ ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول وكانت قصة هذه الثانية متراخية عن الأولى وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع لزوال علة المنع وهي التآلف وكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام كما نهي عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن يكون لا يصلي فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي‏.‏

وفي أحاديث الباب دليل على مشروعية الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حربا أو يستعد له ‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ ‏(‏فإذا خرجوا فاقتلوهم‏)‏‏‏.‏

وقد حكى الطبري الإجماع على ذلك في حق من لا يكفر باعتقاده‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في تكفير الخوارج وقد صرح بالكفر القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال‏:‏‏ الصحيح أنهم كفار لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ ‏(‏ يمرقون من الدين ‏‏)‏ولقوله‏:‏‏ ‏(‏لأقتلنهم قتل عاد‏)‏‏ وفي لفظ ‏(‏ثمود‏)‏‏ وكل إنما هلك بالكفر ولقوله هم شر الخلق ولا يوصف بذلك إلا الكفار ولقوله‏:‏‏ ‏(‏إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى‏)‏‏ ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم وممن جنح إلى ذلك من المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه‏:‏‏ احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة قال‏:‏‏ وهو عندي احتجاج صحيح‏.‏ قال‏:‏‏ واحتج من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علما قطعيا وفيه نظر لأنا نعلم تزكية من كفروه علما قطعيا إلى حين موته وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم ويؤيده حديث‏:‏‏ ‏‏(‏‏من قال لأخيه‏:‏‏ يا كافر فقد باء بها أحدهما‏)‏‏.‏

‏وفي لفظ لمسلم‏:‏‏ ‏(‏من رمى مسلما بالكفر أو قال‏:‏‏ يا عدو الله إلا حار عليه‏)‏ قال‏:‏‏ وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممن لا تصريح فيه بالجحود بعد أن فسروا الكفر بالجحود فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك قلنا وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علمًا قطعيًا ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وممن جنح إلى بعض هذا المحب الطبري في تهذيبه فقال بعد أن سرد أحاديث الباب‏:‏ فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالمًا فإنه مبطل لقوله في الحديث يقولون الحق ويقرؤون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا لخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه ويؤيد القول بالكفر ما تقدم من الأمر بقتالهم وقتلهم مع ما ثبت من حديث ابن مسعود أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وفيه التارك لدينه المفارق للجماعة كما تقدم‏.‏

وقال القرطبي في المفهم‏:‏ يؤيد القول بتكفيرهم ما في الأحاديث من أنهم خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشيء وقد أشار إلى ذلك بقوله سبق الفرث والدم‏.‏ وحكي في الفتح عن صاحب الشفاء أنه قال فيه وكذا القطع بكفر من قال قولًا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة وحكاه صاحب الروضة في كتاب الردة عنه وأقره وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام وإنما فسقوا بتكفير المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك وقال الخطابي‏:‏ أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالته فرقة من فرق المسلمين وأجازوا مناكحاتهم وأكل ذبائحهم وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام‏.‏

وقال عياض‏:‏ كادت هذه المسألة أن تكون أشد إشكالًا عند المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في ال ملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين قال‏:‏ وقد توقف القاضي أبو بكر البلاقاني قال‏:‏ ولم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالًا تؤدي إلى الكفر وقال الغزالي في كتاب التفرقة من الإيمان والزندقة الذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلًا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد قال ابن بطال‏:‏ ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين من جملة المسلمين قال وقد سئل علي عن أهل النهروان هل كفروا فقال من الكفر فروا‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم قال القرطبي في المفهم‏:‏ والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث قال فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون ويقتلون وتغنم أموالهم وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب قال وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئًا‏.‏

6 - وعن مروان بن الحكم قال‏:‏ ‏(‏صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن‏)‏‏.‏

رواه سعيد بن منصور‏.‏

7 - وعن الزهري قال‏:‏ ‏(‏هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه‏)‏‏.‏

ذكره أحمد في رواية الأثرم واحتج به‏.‏

أثر مروان أخرج نحوه أيضًاابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ‏:‏ ‏(‏نادى منادي علي يوم الجمل إلا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم‏)‏ وأخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لابن مسعود‏:‏ يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال‏:‏ اللّه ورسوله أعلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم وفي لفظ‏:‏ ولا يذفف على جريحهم وزاد‏:‏ ولا يغنم فيئهم سكت عنه الحاكم وقال ابن عدي‏:‏ هذا الحديث غير محفوظ وقال البيهقي‏:‏ ضعيف‏.‏ قال الحافظ في بلوغ المرام‏:‏ وصححه الحاكم فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك قال‏:‏ وصح عن علي من طرق نحوه موقوفًا أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم اهـ وكوثر المذكور قد صرح بتركه البخاري وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليًا ولا يسلبون قتيلًا وأخرج أيضًاعن أبي فاختة أن عليًاأتي بأسير يوم صفين فقال لا تقتلني صبرًا فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ لا أقتلك صبرًا إني أخاف اللّه رب العالمين ثم خلى سبيله ثم قال أفيك خير تبايع وأخرج أيضًاأن عليًالم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس ثلاثًا حتى إذا كان يوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر فقالوا قد أكثروا فينا الجراح فقال ما جهلت من أمرهم شيئًا ثم توضأ وصلى ركعتين حتى إذا فرغ رفع يديه ودعا ربه وقال لهم أن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرًا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم قال البيهقي‏:‏ هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئًا ولم يسلب قتيلًا وأخرج أيضًاعن علي أنه كان لا يأخذ سلبًا وأخرج أيضًاعن عرفجة عن أبيه قال لما قتل علي أهل النهروان جال في عسكرهم فمن كان يعرف شيئًا أخذه حتى بقيت قدر ثم رأيتها أخذت بعد‏.‏

وأثر الزهري أخرجه أيضًاالبيهقي بلفظ هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالًا ذوي عدد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرًا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سباء امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يذفف‏)‏ بالذال المعجمة المفتوحة بعده فاء مشددة ثم فاء مخففة على صيغة البناء للمجهول وهو في معنى يجهز قال في القاموس‏:‏ ذف على الجريح ذفًا وذفافًا ككتاب وذففًا محركة أجهز والاسم الذفاف كسحاب قال أيضًافي مادة جهاز وجهز على الجريح كمنع وأجهز أثبت قتله وأسرعه وتمم عليه وموت مجهز وجهيز سريع انتهى‏.‏ وفي الآثر المذكور دليل على أنه لا يجوز قتل من كان مدبرًا من البغاة وكذلك يدل على ذلك الحديث المرفوع الذي ذكرناه وعلى أنه لا يجهز على جريحهم بل يترك على ما هو عليه إلا إذا كان المدبر أو الجريح ممن له فئة جاز قتله عند الهادوية وأبي حنيفة والمروزي من الشافعية‏.‏

وقال الشافعي لا يجوز إذ القصد دفعهم في تلك الحال وقد وقع وهو الظاهر من إطلاق النهي في الحديث ولكنه يدل على جواز القتل إذا كان للبغي المذكور فئة قوله تعالى ‏{‏فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ والهارب والجريح لم يحصل منهما ذلك وأجيب بأن المراد بالفيئة إلى أمر اللّه ترك الصولة والاستطالة وقد حصل ذلك من الهارب والجريح الذي لا يقدر على القتال وأما ما روي عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال‏:‏ لا تتبعوا موليًا ليس بمنحاز إلى فئة فقد أجيب عن الاستدلال بمفهومه على جواز قتل من له فئة وإتباعه بأن إمامة علي قطعية وإمامة غيره ظنية فلا يكون الحكم متحدًا بل المتوجه الوقوف على ظاهر النهي المرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو وإن كان فيه المقال السابق ولكنه يؤيده أن الأصل في دم المسلم تحريم سفكه والآية المذكورة فيها الأذن بالمقاتلة إلى حصول تلك الغاية وربما كان ذلك الهرب من مقدماتها إن لم يكن منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن‏)‏ استدل به على عدم جواز مقاتلة البغاة إذا كانوا في بيوتهم أو طلبوا منا الأمان لأنهم إذا أغلقوا على أنفسهم فليسوا ببغاة في ذلك الوقت واتصافهم بذلك الوصف شرط جواز مقاتلتهم كما في الآية وإذا طلبوا الأمان فقد فاؤوا إلى أمر اللّه تعالى وهي الغاية التي أذن اللّه بالقتال إلى حصولها وقد حصلت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأجمعوا على أن لا يقاد أحد‏)‏ ظاهره وقوع الإجماع منهم على عدم جواز الاقتصاص ممن وقع منه القتل لغيره في الفتنة سواء كان باغيًا أو مبغيًا عليه وقد ذهبت الشافعية والحنفية والإمام يحيى إلى أنهم لا يضمنون ما أتلفوا أي البغاة وحكى أبو جعفر عن الهادوية أنهم يضمنون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه‏)‏ فيه دليل على أنه لا يجوز أخذ أموال البغاة إلا ما كان منها موجودًا عند القتال قال في البحر‏:‏ ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعًا لبقائهم على الملة‏.‏ وحكي عن أكثر العترة أنه يجوز اغتنام ما أجلبوا به من مال وآلة حرب وحكي عن النفس الزكية والحنفية والشافعية أنه لا يغنم منهم شيء ويدل على ذلك ما تقدم في الحديث المرفوع بلفظ‏:‏ ‏(‏ولا يغنم منهم‏)‏‏.‏ واعلم أن قتال البغاة جائز إجماعًا كما حكي ذلك في البحر ولا يبعد أن يكون واجبًا لقوله تعالى ‏{‏فقاتلوا التي تبغي‏}‏ وقد حكي في البحر أيضًاعن العترة جميعًا أن جهادهم أفضل من جهاد الكفار إلى ديارهم إذ فعلهم في دار الإسلام كفعل الفاحشة في المسجد‏.‏ قال في البحر‏:‏ أيضًاوالبغي فسق إجماعًا‏.‏